يتبع غزوة الاحزاب
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول اللَّه تعال: {وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11] ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء أنزل اللَّه تعال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 12-13].
أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل فنهض يقول اللَّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح اللَّه ونصره، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لا بد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقاً لهذا الهدف أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفا بقومهما، ويخلوا المسلمون لإِلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا يا رسول اللَّه إن كان اللَّه أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا اللَّه بالإِسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ واللَّه لا نعطيهم إلا السيف، فصوب رأيهما وقال: إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
ثم إن اللَّه عز وجل - وله الحمد - صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفل حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي - رضي اللَّه عنه - جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة، فذهب من فوره إلى بني قريظة - وكان عشيراً لهم في الجاهلية - فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغوه فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منك، قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.
فلما كان ليلة السبت من شوال - سنة 5هـ - بعثوا إلى يهود أنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. وفلما جاءتهم رسهلم بذلك قالت قريش وغطفان صدقكم واللَّه نعيم، فبعثوا إلى يهود أنا واللَّه لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً. فقالت قريظة صدقكم واللَّه نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون اللَّه تعالى: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
وقد سمع اللَّه دعاء رسوله والمسلمين فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل اللَّه عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارصة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد رد اللَّه عدوه بغيظه لم ينالوا خيراً وكفاه اللَّه قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر، ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال، ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإِسلام تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أجلى اللَّه الأحزاب الآن نغزوهم لا يغزونا، نحن نسير إليهم.